فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ
بقلم/ أ. إيمان أنور عرفات
رئيس قسم دورات أحكام التلاوة و التجويد
إن التربية
بالقدوة من أعظم أنواع التربية وأقواها, يقول الله عز وجل " لقد كان لكم في
رسول الله أسوة حسنة " إذن هي قضية شرعية ? فبهداهم اقتده? فالمسألة فيها
جانب شرعي ، ولابد من تحقيقه و لا ننكر أن هناك أزمة في وجود القدوة , فالقضية
ليست قضية معرفة و معلومات ، إنما هي متمثلة بالشخص نفسه ، بتصرفاته و أخلاقه وسلوكه
و بسيرته الحسنة , القدوة الصالحة ليست قدوة موسمية في وقت دون وقت ، ليست قدوة
نظرية فهي تتكلم عن شيء وتعمل شيء آخر ، ولكن هناك قواعد وثوابت ، تجعل شخصية
القدوة ملتزمة بما تقول ، ملتزمة بالمبادئ التي تدعوا إليها ، سواء دعت إليها
بالكلام أو بالفعل ، هذا الثبات على المبادئ تجعل المقتدي يوقن بأن الإنسان الذي
أمامه عنده صدق , و إيمان ، و صبر ، و استمرار وأنه لا يتراجع ولا يسقط ، ولا ينكص
على عقبيه ، و لا يغير المسار لطمع أو هوى.
ولنافي قصة
الإمام أحمد بن حنبل في " فتنة خلق القرآن " خير مثل ، وكيف كان ثباته
ثبات للأمة كلها ، فلما حمل الإمام أحمد رحمه الله ، إلى المأمون ، وكان معه محمد
بن نوح شاب صالح ثابت على الحق ، قال للإمام أحمد يا أبا عبد الله ، الله الله
فإنك لست مثلي ، يعني أنا شاب مغمور ، وإنك رجل يقتدى بك ، وقد مد الخلق أعناقهم
إليك لما يكون منك ، فاتق الله واثبت لأمرك ، ولذلك ثبت لما ضرب بالسياط حتى خلع
كتف الإمام أحمد ، ثم طرحوا عليه الحصير ، داسوا عليه حتى ظنوه مات ، ما تنحى ولا
تراجع ، و لما قيل له يا إمام قال الله تعالى : "ولا تقتلوا أنفسكم " ،
فقال : انظر إلى الناس , الناس ينتظرون ماذا يقول أحمد ، إذا قال أحمد القرآن
مخلوق قالوا مخلوق .
فالتلوُّن
وتغيير المواقف يُربِك مِن حَولِنا الذّين يَقتدُونَ بنا ، لأنهم لا يعرفون أين
الصواب ، وأين الحق ..!! هذا أم الذي قبله ، لذلك لما جاء أبو مسعود الأنصاري -رضي
الله عنه- إلى حذيفة "وقال أوصنا يا أبا عبد الله ، قال حذيفة ، أما جاءك
اليقين ، قال فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف اليوم ما كنت تنكر قبل اليوم ، وأن
تنكر اليوم ما كنت تعرف قبل اليوم ، وإياك والتلون فإن دين الله واحد " ،
فالمشكلة أن تقتدي بشخص ثم هذا الشخص يغير ، وعندما يغير لا نقول إنها قضية تغيير
قناعات فقهية نتيجة بحث شرعي ، أو قضية تراجع عن خطأ نتيجة تدبر أو تفكر أو نصيحة أو
مراجعة للنفس ، بالعكس هذه التغيرات ممدوحة في حد ذاتها لكن المشكلة عندما يغير
مبادئ أو ثوابت كانت عنده ، ثوابت ربى عليها الناس ، يعني لابد أن تُحتَرَم، لذلك
القدوة يُربِّي النَّاس على ثوابت تربطهم بالمنهج وليس بالأشخاص، بالكتاب والسنة ،
وليس بفلان وفلان ،ولا بشخصه وذاته، يربيهم أن يتبعوا الحق, "اتقوا زيغة
الحكيم" : فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول منافق
كلمة الحق، فإذا ممكن الشيطان يستذل الحكيم القدوة فيقول كلامًا باطلاً، و هذه
أمنية الشيطان لأن هذا إنسان له وزن فسَيُتبَع فَيَضِّل من اتبعه.
إذن يجب على الداعية
القدوة أن يتقي الله فيمن حوله من الناس , وللناس مطالب كثيرة, وتساؤلات عديدة ،
تحتاج من الداعية إلى الاحتمال ، ولأن سعة الأخلاق رابطٌ للناس، ومؤثرٌ فيهم، فهذا
رجل جاء إلى أبي إسحاق الشيرازي فجالسه ثم قال : " .. فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته
وزهده ، ما حَبَبّ إلىّ لزوم صحبته فصحبته إلى أن مات ", فإنه كما أثر "لن
تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم " , والناس يلتفون حول من يؤثرهم
على نفسه ، ويفيض عليهم من حبه ، ويقوي صلته بهم بالأخوة ، يعين محتاجهم ، ويغيث
ملهوفهم, ويتفقد غائبهم، ويعمق الامتنان بالإحسان.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم **** فطالما استعبد الإنسان إحسان
فالناس في
الملمات يحجمون ، وتتقدم بالداعية القدوة جرأته في الحق مصحوبة بحكمته في التصرف ،
فإذا هو المُقدِم الذي تشخص إليه الأبصار ، وتتعلق به القلوب ، وعند المصائب
يتخاذل البعض ، ويتخلف آخرون ، ويتلوَّن فريق ثالث ، ويبقى الداعية كالطود الشامخ
، وحسبك في ذلك موقف الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في يوم حنين . ثبت فكان
بؤرة التجمع ونقطة الانطلاق نحو الانتصار, و في نهاية كلمتنا نقول: "يموت الداعية
وتبقى الدعوة".